يقيّم خبراء مؤسسة كارنيجي التحولات الجارية في سوريا بعد سقوط نظام بشار الأسد، مع التركيز على دور الولايات المتحدة وتأثير القوى المتنافسة في الشرق السوري. يعرض هذا التحليل تصورًا لنظام أمني جديد يتشكّل تدريجيًا في منطقة ما تزال مليئة بالهشاشة والاستقطاب.
موازين القوى بعد سقوط النظام
يشرح خضر خضور، الباحث في مركز مالكوم كير كارنيجي، أنّ سقوط نظام الأسد في ديسمبر 2024 فتح الباب أمام مرحلة أمنية جديدة تتقاطع فيها مسارات القوى الإقليمية والدولية. يظهر في المشهد ثلاث قوى رئيسية: السلطة المركزية الجديدة في دمشق، والبنى المدعومة من تركيا في الشمال، وقوات سوريا الديمقراطية ذات الغالبية الكردية في الشرق.
يشير خبراء مؤسسة كارنيجي إلى أنّ الولايات المتحدة أعادت صياغة حضورها العسكري بعد تقلّص نفوذ إيران وانحسار الدور الروسي. اعتمدت واشنطن نهجًا مرنًا يركّز على إدارة المخاطر اليومية أكثر من إدارة الصراع، مع منح الأولوية لاحتجاز عناصر تنظيم الدولة، وحماية المواقع الحساسة، وضمان انسيابية الطرق الحيوية.
هذا التحول جعل الدور الأميركي أقرب إلى “وسيط موزِّع للضمانات” بين القوى المحلية، بدلًا من كونه قوة ردع ثقيلة كما كان سابقًا.
بين النفوذ التركي والإسرائيلي: توازن هش
يتداخل الشرق السوري مع صراع أوسع بين تركيا وإسرائيل. يتسبّب هذا التشابك في خلق خطّين أمنيين متوازيين: شمال خاضع لترتيبات تركية، وجنوب مراقب تحت النفوذ الإسرائيلي، بينما تتحرك واشنطن بينهما لإبقاء المجال مفتوحًا أمام الاستقرار.
تضغط أنقرة على قوات سوريا الديمقراطية عبر ضربات محدودة تُجبرها على إعادة هيكلة تواصلها وتحركاتها. في المقابل، تخشى إسرائيل أي تمدد للقوى المعادية لها داخل سوريا الجديدة، ما يجعلها تتدخّل لمنع تشكل فراغات قد تسمح بعودة خصومها.
تسعى واشنطن إلى الحفاظ على قاعدة التنف بوصفها مركز تثبيت للتوازن الإقليمي. وجود هذه القاعدة يمنح الولايات المتحدة قدرة على مراقبة الحدود السورية العراقية الأردنية، وإحباط أي تحركات يمكن أن تعيد إنتاج تهديدات جهادية أو إقليمية.
لكن هذا التوازن يظل هشًا. أي اصطدام بين تركيا وإسرائيل يعيد فتح المجال أمام الفوضى في الشرق السوري، خصوصًا مع احتمال إعادة تنشيط تنظيم الدولة في مناطق غير مستقرة.
هل تنجح واشنطن في الانسحاب؟
يتناول خضر خضور التحدي الأبرز: هل تستطيع الولايات المتحدة مغادرة سوريا من دون أن تترك خلفها فراغًا يعيد إنتاج العنف؟
يعتمد نجاح الانسحاب على ثلاثة ملفات حساسة:
1. احتجاز عناصر تنظيم الدولة
تحتفظ قوات سوريا الديمقراطية بحوالي 8500 عنصر موزعين على عشرات السجون. أي خلل في الإشراف أو التمويل قد يفتح المجال لهروب أو إعادة تنظيم خلايا نائمة.
2. حماية المواقع الحيوية والطرق
الطريقان الرئيسيان في الشرق اللذان يربطان المحافظات والمواقع الحساسة—يحتاجان إلى إدارة محايدة تضمن عدم استغلالهما في صراعات جانبية.
3. إدارة الصدامات المحلية
التنافس بين دمشق الجديدة وقوات سوريا الديمقراطية يخلق مشهدًا معقدًا يحتاج إلى مراقبة أميركية دقيقة حتى لا يتحول إلى مواجهة واسعة.
يرى التحليل أنّ مستقبل الوجود الأميركي يتوقف على قدرة واشنطن على فرض “قواعد تشغيل يومية” على الأطراف المحلية، باعتبارها أكثر فاعلية من زيادة عدد الجنود. هذه القواعد تمنع الانزلاق نحو فراغات أمنية قادرة على إنعاش تنظيم الدولة.
يعكس المشهد الجديد في شرق سوريا واقعًا غير مستقر لكنه قابل للتشكّل. يقلّص الأميركيون وجودهم ببطء، لكنهم يحاولون الحفاظ على نفوذ كافٍ يمنع الانهيار الكامل. تتحرك تركيا وإسرائيل ضمن مساحات متداخلة، بينما تحاول السلطة الجديدة في دمشق إعادة بناء شرعيتها وسط شبكة من التوازنات المعقدة.
يدفع خبراء مؤسسة كارنيجي باتجاه مقاربة تُبقي المنطقة ضمن حالة "استقرار قابل للتنفس" على الأقل إلى أن تتبلور صيغة سياسية أوسع تُنهي النزاعات المفتوحة وتحدّ من احتمالية عودة التطرف.
المشهد ليس مُحكمًا بعد، لكن خطوطه الكبرى ترتسم، والشرق السوري يعيش اليوم في مرحلة انتقالية أخطر مما تبدو، مرحلة يُعاد فيها رسم الأمن والسياسة على نار هادئة.
https://carnegieendowment.org/research/2025/12/the-united-states-and-the-emerging-security-order-in-eastern-syria?lang=en

